Sunday, June 17, 2012

هناك - الحلقة الثانية: هناك.. مع ملاك HUNAAK 02





بدأت ذكرياتي تتساقط كقطرات مطرٍ خفيف يتردد صداها داخل وعاء عقلي، كل قطرة تغري باقي صديقاتها كي تقفز معها لتنهمر وتروي بعض الخلايا في ذاكرتي.
أنا حسام.. حسام خالد الشريف، والدي متوفي من خمس سنوات بسرطان البنكرياس، رحمة الله عليه. والدتي عفاف العبدلي.. أسأل الله أن يمن عليها بطول العمر والعافية؛ أعيش معها ومع أختي الصغرى مرام.. تخرجت من جامعة الملك عبدالعزيز قسم علوم حاسب آلي قبل سنة وسبعة أشهر، وأعمل في وظيفة هامشية في شركة مقاولات. حياتي متواضعة جداً لا تسمح لي سوى بأن أكدح وأحلم دون أن أرى أيّاً من تلك الأحلام يتحقق. والدتي انشطرت بعد وفاة والدي لتقوم بالمهمتين: مهمة الأم والأب معاً؛ تعمل كمدرسة نهاراً وبائعة معمول مساءً ومربية على مدار الساعة. أما مرام فطفلة أنهت للتو دراستها الثانوية وحملت على كاهلها أحلاماً لا تعترف بسنها ولا بأنوثتها ولا بظروفها. كل ما تذكرته لا يمت بأي صلة لهذا الزمان ولا المكان ولا حتى الشخص التي أحدث نفسي من داخل عقله وجسده! لم أتذكر سوى الخطوط العريضة في حياتي، ولكنها تقطعت فجأة لأجد نفسي في هذا المكان، قصور وحدائق وأنهار وملكة جمال تخطفني على حصان أبيض.. جميع الأحلام التي يمكن أن تخطر ببال أي شخص، متجسدة هنا..
ولكنني في هذه اللحظة لا أحلم سوى بالعودة إلى أمي وأختي، أريد أن أعود أنا.. حسام القصير الـبدين الأسمر الذي يشقى في وظيفة متواضعة ليعول أمه وأخته.. ويحلم أحلاماً لا تتحقق!
"من جد ابن آدم عجيب!"قاطعَت حبل أفكاري وهي تبطئ من سرعة الفرس، وكأنها كانت متربعة داخل دماغي في أثناء حديثي مع نفسي.. وواصلَت متجاهلة تعجبي:
"ما يملي عينه شي! دايماً يجري ورى سراب أحلامه، ومهما لو شرب منه عمره ما يرتوي!"
ألجمتني دهشتي من مداخلتها واندهاشي من المناظر التي بدأت أستوعب تفاصيلها عندما تباطأت الفرس. توغلنا داخل أحياء المدينة، مساكن متناثرة ملبّسة بالـزجاج والنباتات والقليل من القرميد الأحمر والخشب. بالرغم من تصميماتها الحديثة إلا أنها رفضت أن تتطاول على الطبيعة الرائعة حولـها، لم تجرؤ حتى أن تعزل نفسها خلف أي جدران، وسكّانها يستمتعون بالجلوس بجوارها، يتسامرون، يحتسون، يقرأون، يراقبون صغارهم وهم يبلعبون في أحضان كل ذلك الجمال. كانت الفرس تتبختر بين الممرات وكان الناس يلقون علينا التحية وكأننا ملوك ذلك المكان. هل يُعقل أن تكون جميع هذه التفاصيل مجرد حلم؟ ما أراه هنا أوضح حتى من حياتي الأصلية!.. انحرفَت بالفرس إلى ناحية المجرى الـمائي مخترقة ممراً من الأشجار المتشابكة يقود إلى بوابة لجزيرة صغيرة تطفو على سطح الـماء؛ استقبلنا رجل ضخم يرتدي بدلة مخملية بنفسجية داكنة وعليها معطف جلدي بني طويل بلون بشرته شديدة السمرة ومطرز بنقوش ذهبية في أطرافه، كاد العملاق أن يرعبني لولا ابتسامته البشوشة، أخذ بطرف خصلة الفرس المظفرة وقادنا بهدوء عبر خمس درجات رخامية بيضاء ومن ثم ممر طويل طرقت حوافر الفرس أرضه المصقولة بخطوات بطيئة إلى أن وصلنا لقاعة كبيرة صاخبة فنزلنا من على الفرس عندما توقفت على عتبات المدخل..
"طاولتكم محجوزة في أميريكانو غريل"
قالـها العملاق وهو يتقدمنا في تلك الـردهة التي أشبهها بأسلوبي المتواضع بـ Food Court عملاق انتشرت على أطرافه المطاعم ذات الخمس نجمات فما فوق؛ تعلّقت هي بذراعي وأشارت إلى مطعم استقر على قمته مجسم عملاق لهمبورغر يدور وعليه قبعة مكسيكة..
"أهه المطعم يا حسام.."
في تلك اللحظة بالذات تذكّرت احتفالاتنا المتواضعة عند استلام المكافأة في بداية الشهر، كنا نصرف جزءاً معتبراً منها في تشيليز ومن ثم تتدهور خياراتنا الغذائية مع جفاف المكافأة ولا يتبقى لـنا سوى خبز التميس المجمد في نهاية الشهر.
تخطينا الزحام وطابور الانتظار لنجلس على طاولة مميّزة مطلّة على المجرى الـمائي مباشرة، يبدو أن أهالي هذه المدينة مهووسون بالكريستال، فقد كانت أرضية المطعم شفافة، ومرتفعة قليلاً عن سطح الـماء، عندما نظرت حولي شعرت أن الطاولات مستقرة على الأمـواج ومن تحتها أسراب الأسـمـاك وحـدائق المرجان. تناولَت قائمة الطعام ومالت علي بدلال وهي تقول:
"حتلاقي هنا كل شي يعجبك"
فتحتُ القائمة، مع أني لم أكن أشعر بالجوع، لكن الصور المجسّمة الحيّة التي تفوح منها روائح الوجبات كانت كفيلة بتفجير غددي اللعابية! برغر.. ناتشوز.. ستيك.. في العادة تقفز عيني مباشرة لخانة الأسعار، وتصاب بالعمى المؤقت تجاه الأطباق التي يتجاوز سعرها حاجز الخمسين ريالاً، ولكن هذه القائمة ازدادت روعةً بخلوّها من الأسعار! تقدم إلينا النادل وسألنا بكل لطف:
"Madam, Sir, What would you like to order?"
"تحب أطلب لك ناتشوز وتشيز برغر ويل دن كالعادة؟"
لم أعد أتفاجأ من التفاصيل التي تعرفها عني، تجاهلت جوعي المتفاقم وأنا أمثل دور الشاب اللبق وأسألها:
"إش تحبي تاكلي إنتِ؟"
"تيركي ساندوتش ودايت كوك.."
أجبت على النادل:
"May I have one turkey sandwich, one home made cheese burger with bacon, make it well done please, I would also like to have some nachos, and starter platter"
"What would you like to have for drink?"
"Diet Coke, Lemon Ice Tea, and a bottle of still water please"
بالرغم من أن إنجليزيتي مصابة بالكساح إلا أنني تحدثت معه بطلاقة وبلهجته الأمريكية، وكأني ترعرعت في ريف تكساس بدلاً من إسكان الأمير فواز!
ذهب الـنادل ولم تمض بضع ثوانٍ حتى جاءت الأطباق تقدّمها فتاة ترتدي زي الكاوبوي الأمريكي؛ هجمتُ هجوماً كاسحاً همجياً بربرياً على ذلك البرغر.. عجزت يداي عن احتوائه من ضخامته فغاصت أصابعي في خبزه الطري الذي ودّع الفرن للتو ففاحت رائحته وامتزجت برائحة اللحم المشوي وأذابت في طريقها شريحة الجبن قبل أن تذيبني؛ قضمت قضمة لا تتناسب أبداً مع حجم فمي، رافقتُ أسناني بجميع أحاسيسي في رحلتها عبر طبقات الـساندوتش فاكتسحني طوفان النكهات وأشعرني بألم طفيف في أطراف فكي تحت أذني إثر النزيف اللعابي الذي أصابني. لم أمهل جهازي الهضمي ولا التنفسي الفرصة لاستيعاب هجوم البرغر، فتناولت رقاقة ناتشوز دافئة واغترفت بها غرفةً من الجبنة الذهبية الملتهبة وزينتها بقليل من حِمم الصلصة ومن ثم أقحمتها دفعة واحدة في فمي الذي لم يبلع لقمة الهمبرغر بعد. راقبَتني بدهشة وأنا أحرك طواحين فمي ولساني يتلوى وسط الزحام بصعوبة وهي لم تلمس وجبتها بعد، توقفْت للحظة عندما لاحظَت طفاستي فانفجرت ضاحكة..
"بالعافية يا حسام؛ أول مرة أشوفك تاكل بهذي الطريقة!"
استعنت برشفة من الشاي المثلج المنعش كي أنهي المهرجان المشتعل في فمي، وانزلقت اللقمة العملاقة بكل سعادة إلى بطني؛ الآن استعدت القدرة على التنفس والكلام:
"طيب.. وبعدين؟"
"وبعدين إيش؟"
"متى ناوية تفهّميني؟"
"أفهمّك إيش؟"
"تفهّميني إيش اللي بيحصل هنا؟!"
"اللي بيحصل إننا مبسوطين هنا مع بعض، وإنك بتاكل وكأنك عمرك ما شفت الأكل!"
"لا تتهربي من سؤالي.."
"لحظة لحظة.."
قالتها ونادت إحدى الـنادلات الكاوبويات، وهمست لـها في أذنها فابتسمت الفتاة وتوجهت فوراً نحو المنصة في منتصف المسرح حيث انهمك أعضاء الفرقة الموسيقية بتركيب آلاتهم وسمّاعاتهم، كانت فرقة من خمسة رجال وسيدتين يرتدون بدلات مخملية أنيقة بنفسجية الـلون مع ربطات عنق ذهبية وقبعات كاوبوي. استمع رئيس الفرقة للفتاة وأومأ برأسه، وبدأت الفرقة تعزف الأغاني المفضلة عندي، وكأنهم يحفظون القائمة التي أستمع إليها كل يوم في هاتفي المحمول وفي سيارتي! ولكنهم عزفوها بطريقة أروع من الأصلية بكثير، في هذه الأثناء ازداد تيار الـهواء الداخل عبر النافذة وبدأت ألاحظ حركة غريبة في السحاب والأمواج، في الواقع نحن الذين تحركنا.. لقد تحركت الجزيرة بأكملها! ارتفعت عن المياه وبدأت تسبح في الهواء ورأيت أنوار المدينة والحدائق والممرات المائية تتضاءل من خلال الكريستال تحت أقدامنا، كانت الأنوار والأبراج تملأ كل نقطة تمكّن بصري من الوصول إليها؛ لكن بالرغم من دهشتي لم تنجح مراوغتها لتشتيتي عن أسئلتي فكررتها بصرامة أكبر:
"قلت لك لا تحاولي تتهربي مني! أنا في حلم صح؟"
"بذمتك فيه أحد عاقل يتوقع إجابة مقنعة من إنسانة خيالية في أحلامه؟ منت شايف وحاسس وسامع اللي حولينك؟ هذا حلم هذا؟ عمرها كانت الأحلام بهذا الوضوح؟"
"أقرصيني!"
"نعم؟!"
"أقول لك أقرصيني!"
قلتها بجديّة وعصبية فأطلقت ضحكة قصيرة وتلفتت لتتأكد أن الأنظار ليست موجهة نحونا:
"طيب طيب.. أعصابك! أهه!"
شعرت بأناملها الرقيقة الناعمة في ذراعي، لم تؤلمني ولكنني متأكد من أني شعرت بها، هذا لا يكفي!
"أضربيني كف!"
"لا لا إنت فعلاً اتجننت.."
"أضربيني!"
صفعتني صفعة مدللة فصرخت فيها:
"أضربيني بقوة! يللا!"
صفعتني صفعة حقيقية هذه المرة! شعرت بوخزات دبابيس صغيرة تتقافز فوق مساحة كفها الصغير الذي ترك علامة حمراء مع حرارة بسيطة على خدي.. التفت إلينا من في المطعم ثم تداركوا الإحراج بالتجاهل وتلفيق الابتسامات..
تحسستُ مكان الـصفعة بألم، فوضعت كفها على كفي وخدي وكادت دموعها تقفز وهي تقول:
"حبيبي يقطعني! اتعورت؟ معليش سامحيني.. والله ما كان قصدي أعورك!"
"مستحيل أكون نايم.. ومستحيل أصدق إن هذا كف بنت! فكرتيني بأستاذ عايض!!"
تحول هلعها لضحكة كتمتها بيدها وهي تقول:
"لا يغرك شكلي.. تراني أعجبك وقت الجد!"
"طب أحلفي إني ماني نايم، أحلفي إني ماني في حلم!"
"وليش ما تكون حياتك الـثانيه هي الحلم ودوبك صحيت منه؟ منت شايف الأشياء هنا أوضح وأحلى؟"
"قلت لك لا تتهربي.. أحلفي!"
"والله العظيم إنك صاحي وإن هذا كله حقيقة مو حلم"
"أصلاً حتى لو حلفتي.. إش يضمن لي إنك صادقة؟ إش يضمن لي إنك تعرفي ربنا؟ متحررة.. متبرجة.. عايشة في وسط اختلاط ومجون وموسيقى.. "
سكتت فجأة، اختفت اللهفة من ملامحها واعتراها حزنٌ معاتب غاضب. فاكتشفت حماقتي الفادحة؛ ليتها تصفعني مئة صفعة وتنسى العبارات المنتنة التي قلتها!
"الله يسامحك يا حسام!.. يكون في علمك إحنا نعرف ربنا كويس، وما يحتاج أحلف لك.. لو ما بتصدقني إنت حر! محد غصبك!"
"زعلتِ مني صح؟"
"المشكلة ما أقدر أزعل منك، أولاً لأني عارفه كل الظروف اللي مريت بيها والمجتمع اللي عشت فيه"
"وثانياً؟"
"وثانياً.. عشان أنا..."
"إنتِ إيش؟"
"ولا شي، مو تقول عندك أسئلة؟ يللا اسألني عن أي شي بس بشرط.."
"اتفضلي اتشرّطي"
"ما حاقدر أجوابك غير بـ (إيوه) أو (لا)، صدقني ما أقدر أعطيك أي تفاصيل، إلا في حالة وحدة"
"إيش؟"
"لو قررت إنك ما ترجع أبداً لماضيك ممكن أكشف لك كل شي! غير كذا ما حاقدر أقول أي شي، كل اللي حاحاول أسويه إني ألـمّح لك بتفاصيل حياتك عشان تتذكر وتعرف إنت كيف جيت هنا وكيف حترجع!"
"يعني لو قلتي لي حانحبس هنا؟"
"حتعيش معايا هنا.."
"للأبد؟"
"للأبد!"
"لا لا مستحيل!.. طب حاسألك وجاوبيني بإيوه أو لا.."
أراحت خديها على كفيها ونظرت إلي بعينيها القاتلتين وقالت بدلال شهرزادي:
"تحت أمرك يا سيدي"
"أنا باحلم؟"
"قلت لك.. لأه!"
ركزّت جرعة دلالها هذه الـمرّة في كلمة (لأه) فقالتها ببطء وألصقت طرف لسانها في سقف حنكها ثم أطلقت سراحه مع همزة وهاء خفيفة.. تجاهلتُ الدوار الذي انتابني من غنجها وواصلتٌ الأسئلة:
"يعني أنا صاحي؟"
"إيوه"
"كل شي هنا حقيقي مو مجرد خيال في ذهني؟"
"إيوه كل شي هنا حقيقي"
"إنت جنيّة؟"
"هاهاهاها.. باسم الله عليّ! لا طبعاً.. ماني جنيّة"
"أنا في تجربة علميّة نقلتني للمستقبل؟"
"هاهاهاها لا لا.. حرام عليك بتقتلني من الضحك!"
"في كوكب تاني؟"
"لا لا.. إنت من جد متأثر بالأفلام اللي طفشتني بيها!"
"أنا ميت صح؟"
"بعيد الشر عنك!"
"طب أنا فين قولي لي!"
"خلاص أقول؟ قررت تعيش معايا للأبد؟"
"خلاص لا تقولي لي.. حاكتشف بنفسي!"
تلاشى الفرح من ملامحها.. واكتساه الإحباط.. كم أنا حقير.. حقير ودنئ ووضيع وصفيق وقليل أدب! كيف أعامل هذا الملاك بكل هذه القسوة؟ قمت من الطاولة فنادتني بقلق:
"فين رايح؟"
لم أجبها، وإنما توجهت إلى قائد الفرقة.. وعدت إليها؛ وقفت عندها وقفة استعراضية وكأن أنور وجدي خرج من أحد أدواره الدونجوانية:
"تسمحي لي بالرقصة دي؟"
بدأت الفرقة تعزف الأغنية التي طلبتها.. جحظت عيناها من الدهشة والسعادة وكادت أن تقفز من مقعدها لتتعلق بذراعي، اتجهنا نحو المنصة.. خفتت الأضواء قليلاً والتفت نحونا جميع من في المطعم:
"(كلمات) كتبها نزار قباني، ولحنها إحسان المنذر، وغنتها ماجدة الرومي؛ كنت تسمعها في السيارة وتخبي السي دي تحت المقعد عشان ما يكفشك أبوك.."
ابتسمت وأنا أتأمل عينيها، لا يهمني ما تعرفه عني، لا أريد أن أعكر صفو هذه اللحظة بأي شئ يشغلني عن عينيها، فقط جعلت كفّي وسادة لكفّها، وعانقَت ذراعي خصرها، فأصبح جسمها معلقاً بجسمي، مستسلمة على صدري وأنا أراقصها على كلمات نزار. بالرغم من جسمها الفارع كنت أطول منها بعدة سنتيمترات بالرغم من كعبها العالي، ما أجمل هذه السنتيمترات! سحقاً للقصر سحقاً!!
"كم طولك؟"
"طولي؟! ١٧٦ سم ليش؟"
"يعني أنا طولي يطلع تقريباً..."
"١٨٩ سم!"
قالتها بمرح، ثم بدأت تغني بانسجام..
يُسمعني.. حين يُراقصني.. كلماتٍ ليست كالكلمات.. يأخذني من تحت ذراعي.. يزرعني في إحدى الغيمات..
غنتها بصوتٍ ملائكي أنساني ماجدة وفيروز وكل صوت أنثوي سمعته في حياتي.. كنت أشعر بالإحباط كلما سمعت الأغنية، لأنها تحكي باختصار تفاصيل لحظة يستحيل أن يعيشها شخصٌ مثلي.. لا يملك مالاً ولا جاهاً ولا جمالاً ولا طولاً.. أسمعها فانتازياً فقط لأتلف أعصابي؛ وها أنذا أعيشها اليوم بحذافيرها، أراقص ملكة جمال الكون وهي تغنيها لي. كنا نرقص مع ألحانها وكانت الموسيقى تعزفنا كما تعزفها.. عانقت نظراتها نظراتي، واحتضنت أنفاسَها أنفاسي.. ففاضت قطرات من نهر التوپاز في عينيها الواسعتين وتعلقَت على أهدابها النحاسية للحظات قبل أن تغادرها مع دورانها بين ذراعي. ألا يُفترض بتلك الدمعات أن تُذيب بعض مساحيق التجميل حول عينيها كما تفعل عادة ببنات عالمي الذي أتيت منه؟
"على فكرة أنا ماني حاطّة أي ميك أب!"
"ليش؟!"
سألت سؤالي الغبي فنظرت إلي بتوسل وهي تقول:
"مو عاجبك شكلي؟ تحب أحط لك ميك أب؟ إش الشكل اللي يعجبك؟"
ألا تعرف هذه المجنونة أن جمالـها يسخر من مقاييسنا البشرية؟ حاولتُ مداراة سؤالي:
"لا بالعكس، أنا للآن ماني قادر أصدق إنه ممكن يكون فيه في الوجود مخلوقة بجمالك، ما بالك إنه الـمخلوقة الأســـطــورية هـذي ترقــص الآن بــين أحضاني؟"
الآن اكتشفت أن حمرة خديها لا عــلاقــــة لـــها بمساحيق التجميل، فقد نضجت خجلاً أمام عيني وفرّت من نظراتي إلى صدري؛ فسألتها:
"إنتِ تقرأي أفكاري صح؟"
"لا"
"ولكن كيف..."
رفعت رأسها عن صدري وقاطعتني بنظرتها قبل عبارتها:
"تقدر تقول غريزة"
"غريزة؟ حسستيني إنك أمي"
"الحب يا حسام يقرّب القلب للقلب، والقلوب تشوف قبل العيون وتسمع قبل الآذان"
ألجمتني كلماتها، عادت إلى صدري وأسدلت جفنيها إلى أن انتهت الأغنية.. وتوقفنا.. ولكن خفقان قلوبنا استمر على نفس الإيقاع. توقف المطعم عن الطفو بهدوء، فرفعت رأسها وقالت بنبرة حزينة:
"وصلنا.."
نظرتُ من الشرفة لأكتشف أن المطعم أصبح بمحاذاة شرفة غرفتي التي استيقظت فيها.. اقتادتني إلى شرفة المطعم حيث امتد مسار من طرفه إلى طرف شرفتي، نزلتُ من تلك الجزيرة الطافية ولكنها لم تنزل معي..
"ما حتنزلي؟"
"لازم أمشي.. فيه أشياء كثير لازم أجهزها لك"
"طب.. طب ما حاشوفك مرة ثانية؟"
"لو تبغاني ناديني وأنا أجيك على طول.."
قالتها عندما بدأت تلك الجزيرة الطائرة بالابتعاد تدريجياً وهي تقف على طرفها والهواء يلوح لي بثوبها وشعرها، فهتفت كي تسمعني:
"كيف أناديكي؟ إنتِ ما قلتي لي إسمك؟"
"إنت سألتني خمسين سؤال ولا حتى فكرت تسألني عن اسمي.. أنا اسمي ملاك!"
كان صوتها يتضاءل وهي تبتعد على متن ذلك الشئ الطائر إلى أن اختفى في الأفق.. واختفت معه.. ملاك!



9 comments:

  1. من جد " وااااو " سرحت بالتفاصيل .. لدرجة اني دوبي متغدي لكن حسيت نفسي أتغدى تاني :)
    .. لا تطول علينا بالحلقه الثالثه :)

    ReplyDelete
  2. ههههههه كل مآ آقرآ آروح عآلمي ثآنني ومآآحس بآللي جمبي

    ReplyDelete
  3. كل حلقة أحلى من الي قبلها بكتير ماشاء الله
    من كتر مني متحمسة للي بعدها قريتها اكتر من مرة خخخ

    ReplyDelete
  4. إنشاء الله ما أتأخر بالحلقات :) حتنتهي هذي القصة بعد خمسة أسابيع :)

    ReplyDelete
  5. ابداع متواصل ما شاء الله و ي ريت تنزل ال chapter الثالثة و الرابعة ...

    ReplyDelete
  6. الرواية هذي موجودة ف كتاب ومن وين اقدر اشتريها بليز

    ReplyDelete
  7. استاذ ابراهيم انا من المعجباات بكتاباتك حوجن سلبني ومررة عجييب وحلوو حبييت جد ابدعت وانا احييك بمعنى الكلمة ع نشرك لكتاب حوجن رغم اني لا اعتبر الا من صغار المعجبات ولكن دايما العبارات والكلمات الحلوة ترفع المعنوية وتفتح النفس .. تسلم ع كتابتك لحوجن .. مافي كتب ثانية ؟؟

    ReplyDelete