Wednesday, June 13, 2012

هُناك -الحلقة الأولى- أنا؟ هنا؟! HUNAAK 01



وأخيراً.. قلم!
قلم غريب عجيب، ككل شئ رأيته هنا، قطعة مصمتة منحوتة بنقوش متداخلة في منتهى الدقة والروعة تستمر بنفس النسق على رأسه المعدني، ترسم ألف لوحة في طرفه الـمدبب بالزخارف الذهبية والبرونزية..
قلم يغري الأنامل بالكتابة، حبره يغازل الورق، ينساب بالعبارات وكأنه يعرفها، يكاد ينطق بالكلمات قبل أن يكتبها.
طلبته منها فأحضرته لي على الفور..
سأخبركم عنها، لا تستعجلوا..
ولكن الآن لا بد أن أكتب..
لا بد أن أتذكر..
ولكي أتذكر يجب أن أدون كل شئ!
حسنٌ، لا أعلم إن كانت كلماتي هذه ستجد من يقرؤها، لا أعلم إن كنت سأتذكرها بعد كتابتها، ولكن يجب أن أدون كل شئ يحصل لي منذ اللحظة التي وجدت نفسي فيها هنا، اللحظة التي لا أستطيع تذكر أي شئ قبلها!
فتحت عيني فرأيت سقف الغرفة الذي يرتفع لمسافة عشرة أمتار على الأقل، ومقعر مكوناً قبة كريستالية شفافة عليها رسوم عجيبة، لولا الرسوم لـما عرفت أن هناك قبة أصلاً، ليست قبة واحدة وإنما مجموعة من القباب المتمازجة، أستطيع تمييز القبة الرئيسية في المنتصف، بالإضافة إلى ثلاث أو أربع قباب أخرى متباينة. تتدلى من القباب خيوط رفيعة جداً تنتهي بكرات متلألئة تضئ الغرفة بضوء سحابي خافت. تتأرجح بدلال بسبب تيارات الـهواء التي تداعبها. أستطيع أن أرى الـسماء من خلف تلك الكريستالات الكروية العملاقة، لون أزرق صافي، لا تقاطعه سوى بعض السحابات القطنية التي تسبح بتكاسل والعصافير التي تتراقص قليلاً في الهواء قبل أن تأخذ استراحتها على تلك القباب.

لا أعلم كم ظللت على هذه الـحال، دقائق؟ ساعات؟ كانت عضلاتي جميعها في حالة استرخاء لـذيذ؛ وعيني مفتوحة، تحاول استيعاب جمال ذلك الـسقف، بينما أحاول أنا استيعاب الـوضع، بلا جدوى! أعتصر كل خلية في دماغي لأتذكر أي شئ، بلا فائدة! من أنا؟ ما اسمي؟ من أين أتيت؟ ما الذي أتى بي إلى هنا؟ ما هو هذا المكان أصلاً؟؟
فشلَت جميع محاولاتي للتذكر فقررت أن أرغم عضلاتي على النهوض.. كنت غائصاً في سرير أبيض بملمس مخملي ناعم، يتشكل حول جسمي دون أن أشعر به، يحتويني كأنه قالب من القشطة، لم يكن هناك سوى ذلك السرير في وسط الغرفة، تلفتّ حولي، هذه ليست غرفة وإنما.. ساحة.. ساحة دائرية شاسعة، قطرها لا يقل عن عشرين متراً.
تذكرت! أين نظارتي؟!.. نظري الضعيف لا يسعفني لـرؤية أكثر من مترٍ أمامي! تحسست حولي باحثاً عنها، تحسست وجهي فلربما أجدها مختبئةً على أنفي كعادتها، ولكن انتظروا لحظة..! كيف استطعت رؤية كل شئ بوضوح؟ أنا بدون النظارة شبه كفيف!

وقفت على الأرض، شعرت ببرودة خفيفة تسري إلى جسدي عبر أقدامي ولاحظت شيئاً عجيباً، الأرض تبدو بعيدة عني.. أو.. أو.. لا لا مستحيل! أظن أنني أطول قامةً.. نعم! لا أذكر أنني بهذا الطول أبداً! طولي لا يتجاوز متراً وسبعة وستين.. تشمل حذائي السميك وشعري المنكوش!.. ووزني يتجاوز الـ.. رفعت طرف القميص الأبيض الذي لا أعلم من أين أتى هو الآخر لألقي نظرةً على كرشي التي اعتادت أن تحجب عني رؤية أقدامي فيما عدا أطراف أصابعي.. و.. يا إلـهي!! لقد تحولت كرشتي الرَجرَاجة إلي ستة مربعات أنيقة مشدودة تزينها صرة أستطيع رؤيتها بدل تلك الهوة التي لا أذكر أنني رأيت قاعها يوماً. تحسست جسمي، أكتافي صدري عضلاتي، من أين لي كل هذا؟!
كنت أشعر بخفة عجيبة، لقد ظلمت الجاذبية الأرضية طوال حياتي، فكرشي هي التي كانت تشفطني دائماً للأسفل! مشيت على الأرض، بيضاء ملساء باردة قليلاً، ما هو مصدر تيارات الـهواء؟ هل هناك فتحات تبريد؟ ولكنني لا أسمع أصوات أي أجهزة تكييف، في الواقع لا أسمع أي أصوات سوى أنفاسي و.. نعم بالكاد أسمع أصوات المدينة.. لا ليست كالتي أعرفها: سيارات وزحام و ضوضاء..
فقط أصوات مجموعة من الـناس، رجال ونساء وأطفال تأتي من بعيد، قاطعها صوت موسيقى، سلبتني من قمة الدهشة إلى قمة الانسجام، صوت الموسيقى كان ينبعث من الغرفة بكل هدوء وانتشرت مع الموسيقى رائحة عطرية سيطرت على توتري وأرغمتني على اغلاق عيني وشفط هواء الغرفة في نَفَس عميق أنعش رئتَي. اتجهت نحو الـحائط الدائري الذي كانت الستائر تزين نصفه.. أو ثلاثة أرباعه، لاحظت تحرك بعض الستائر، من هنا تتسلل تيارات الهواء إذاً! لا بد وأن خلفها باب! كيف أفتح هذه الستائر؟ أين الأزرار والمفاتيح؟ سحقاً! لـماذا لا أجد أي كتيبات إرشادية للتعامل مع الأشياء هنا؟ اضطررت لأن أستخدم أكثر الحلول بدائية، فرفعت الستارة ومررت من تحتها و... آه ما هذا؟ اكتشفت أن الغرفة متصلة بشرفة بنفس المساحة تقريباً، تظللها بعض الشجيرات المتسلقة المزينة بأزهار تتنافس بجاملها وألوانها وروائحها، أنستني العطر الذي أسكرني قبل قليل. الشرفة معلقة على قاعدة كريستالية شفافة، لولا المقعدان والطاولة في طرفها لظننت أنها بلا أرضية. وضعت قدمي الأولى بحذر خشية الـوقوع، وشجعَت قدمي الأولى قدمي الأخرى، نظرت حولي، كنت على ارتفاع شاهق، بالكاد أستطيع رؤية الأرض والـناس يمشون عليها كالنمل؛ نظرت خلفي لأرى هذا المبنى الذي وجدت نفسي في فيه، لعلي أجد أي علامة أو لوحة، كان عبارة عن برج مغطى بالكامل بزجاج أملس بدون أي فواصل أو نوافذ، تحفة كريستالية عملاقة تنتهي بقبة شفافة هائلة الحجم أستطيع رؤية الأجواء الاصطناعية داخلها: أشجار، أزهار، مباني، كأنها مدينة مصغرة معلقة في السماء؛ وحول البرج الرئيسي تناثرت أبراج أخرى أقصر تنتهي بقباب أصغر مثل التي وجدت نفسي فيها تماماً. قاعدة هذه الأبراج عبارة عن حديقة منسقة بشكل رائع مع طرقات للمشاة ومباني صغيرة متناثرة هنا وهناك تتخللها ثلاثة ممرات مائية عليها بعض الزوارق؛ تصب في خليج ممتد في الأفق الذي ارتصت من خلفه مباني مدينة هائلة، أشبه بإحدى مدن المستقبل في روايات الخيال العلمي.
الآن تأكدت أنني في حلم واضح! كنت متيقناً أن قراءتي لمواضيع الإسقاط النجمي والأحلام الجليّة سوف تؤثر يوماً على دماغي، وهأنذا محبوس في أحدها! سوف أستيقظ بعد قليل ويزول كل هذا.. لا بد أن أستيقظ! حاولت جاهداً أن أفتح عيني، أحملق بهما بكل قوة لأستيقظ.. قرصت نفسي.. عضضت يدي وفجأة..
طرق الباب..
سمعت طرقات رقيقة وصوت فتاة أرقّ :
   "تسمح لي أدخل؟!"
ارتبكتُ جداً.. لاأذكر أي علاقات تربطني بالجنس اللطيف سوى بعض العبارات السطحية العابرة على الإنترنت.. تذكرت! لـقد كنت أخجل من فرط بدانتي وقلة وسامتي وأميل للانطواء، ولكن لا داعي للخجل هنا، كل شئ اختلف! إنني أعيش الآن في داخل حلم.. مجرد حلم! وسوف أستغلّه قبل أن يستقيظ صاحب الكرش الرَجرَاجة! استغرقَت أفكاري وقتاً أكثر من اللازم فعادت الطرقات وهرعت إلى الغرفة أبحث عن الباب في الجهة المقابلة للستائر، سحقاً لهذا الجدار المصمت المستفز لا أثر فيه لـباب ولا أكرة ولا حتى فتحة مفتاح؛ عادت الفتاة تستأذنني فارتبكت أكثر، وقررت أن أسمح لها بالدخول وعليها أن تتصرف هي لإيجاد الباب فقلت بجدية مصطنعة وفردت قامتي وشفطت كرشي لا شعورياً وأنا أقف أمام الجدار:
   "تفضلي..!"
ارتفع جزء في الجهة الأخرى من جدار الغرفة بهدوء، فبدوت كالأبله وأنا أقف بحزم أمام الحائط المقابل الذي خمّنت أنه الـباب؛ التفتّ إلى ذلك الـجزء وإذا بها مندفعة نحوي وتهتف بلهفة:
   " حسام.. حسام!! ما تتخيل قد إيش وحشتني!!"
حسام؟.. حسام!!! صحيح تذكرت!! اسمي حسام..! فاجأتني بتعلقها برقبتي واحتضانها لي بقوة وانهمار دموعها التي انسابت بين خدها وخدي، لم أتحمل المفاجأة.. طبعاً لم أتحملها! أعترف أنني قد أصاب بنوبة اضطراب عاطفي مصحوبة بتلبك معوي وشلل مؤقت لو ابتسمت لي فتاة عادية وقالت "كيف حالك"؛ ما بالكم بإنسانة تحتضنني وتقول "وحشتني وحشتني"؟!
إنسانة؟ يستحيل أن تكون هذه المخلوقة إنسانة أصلاً ! تنصلت من حضنها وأنا أتمزق حسرةً وخجلا، رأيتها أمامي بوضوح.. لم تبعد وجهها كثيراً عني، سنتيميترات قليلة تفصل بين ذهولي وابتسامتها، تلك المسافة الضئيلة لا تكفي العين في العادة للتركيز وتمييز الملامح، ولكن جمالها تحدى جميع القوانين البصرية، رأيتها بكل وضوح، عيناها ملأتا أفقي، تسخران من زرقة البحر وسعته وأعماقه، مرآتان للسماء، ولي.. ميّزت صورتي المنعكسة فيهما، شعرت من نظرتها المتلهفة أن صورتي تلك ليست مجرد انعكاس، شعرت أنها تحملني في عينيها أينما ذهبت، كلما فتحتهما، وكلما أغمضتهما. إن استرسلت في وصفها فلن أكمل كتابة قصتي أبداً! باختصار جمالها يتجاوز جمال أجمل مخلوقة رأيتها أو تخيلتها في حياتي! لو بحث أحد عن أسرار الجمال فستفضحها ابتسامتها، ولو سأل عن معنى الأنوثة فسيكون قوامها الإجابة النموذجية! لم تخفِ ضيقها من تنصلي.. ولكنها احتفظت بابتسامتها المرحة ومسحت دمعتها برسغها بشكل طفولي وألقت بنفسها على السرير فغاصت فيه قبل أن يتبعها ثوبها الحريري الأبيض الذي هبط عليها ببطء وتطلّعت للسقف وهي تقول بسعادة:
   "طول عمري يا حسام بأحلم بهذي اللحظة! إني أشوفك قدامي.. أكلمك.. أحضنك!"
ما هذه الفتاة المبتذلة؟ مع احترامي الـشديد لجمالها الذي لا يختلف عليه اثنان، كيف تدخل غرفة شاب بمفرده، لا تعرفه ولا يعرفها؟ وتحضنه! وترتمي على سريره!! ناهيك عن سفورها وتبرجها وملابسها!
لحظة لحظة.. من قال أنها لا تعرفني؟ لقد نادتني باسمي، في الواقع لم أتذكر اسمي إلا منها! استجمعت شجاعتي الكاذبة وصرامتي المصطنعة وأنا أقول:
   "واضح إني فقدت ذاكرتي، وإنك تعرفي أشياء كثير عني وعن هذا المكان.. ممكن لو سمحتِ توضحي لي؟"
   "لا يا شيخ؟! عامل لي فيها الرَّجُل الحِمِش!"
قالتها وقامت من السرير وسحبتني من يدي نحو الجهة الأخرى من الحائط وهي تقول:
   "لا تستعجل، رح تعرف كل حاجة في وقتها. أنا ميته من الجوع، خلينا نروح ناكل دحين.. أنا عازماك على مطعم جديد أكيد رح يعجبك!.. بس لازم تغير ملابسك أول!"
مررت أناملها بحركة انسيابية على جزء من الحائط وكأنها تداعب شاشة كمبيوتر لوحي، فانفرج جزء كبير من الحائط كانت تختبئ خلفه خزانة ملابس فيها عشرة أضعاف كمية الملابس التي لبستها في حياتي! مع فارق النوعية طبعاً!
نقرَت بأناملها على طرف الحائط فأضائت الخزانة من الداخل.. اكتشفت أنها ليست خزانة، وإنما معرض متكامل يضم أرقى الماركات العالمية.. سحبتني من يدي إلى داخل تلك الخزانة وتنقّلَت بين صفوف الملابس المعلقة بمرح:
   "هاه تحب تختار بنفسك؟.. ممم وللا أقول لك.. خليني أنا أختار لك أحسن"
سحبتني إلى علّاقة ارتصت عليها قمصان پولو بجميع ألوانها وسحبت القميص الأبيض، ناولتني إياه:
   "پولو أبيض.. قميصك المفضل صح؟"
تناولته، تفحصته، بحثت عن شارة المقاس، فقد تكون هذه هي اللحظة التاريخية التي أستطيع أن أحشر فيها نفسي داخل ملابس لا تحمل حرف L دون أن تتمزق إرباً؛ وعندما لم أجدها أسعفتني حماقتي بهذا السؤال:
   "هذا مقاسي؟"
قهقهت وهي تقول:
   "لا مقاسي أنا! طبعاً مقاسك! كل شي هنا مفصّل على مقاسك بالضبط!"
قالتها وهي تتناول جينز أرماني وجوارب پول سميث وحذاء لوي ڤيتون.. كلما اختارت شيئاً ازداد اشتعال ذاكرتي، هذه هي ملابسي المفضلة التي ادخرت مكافآتي الجامعية لبضعة أشهر حتى أحصل عليها وقت التخفيضات! توجّهَت إلى إحدى الأدراج وأطل بريق الذهب والبلاتين والألـماس عندما فتحته؛ مجموعة مذهلة من الساعات ذات الأسعار الفلكية، تناولت إحداها وقالت:
   "هذي الرولكس ياخت ماستر اللي نفسك فيها صح؟"
فعلاً كيف عرفَت؟ لقد سال لعابي أنهاراً على هذا الشئ الذي حتى لو قررت ادخار كل مكافآتي الجامعية بالإضافة إلى مصادر دخلي الأخرى واكتفيت بتناول الـماء وفتات الخبز لعدة سنوات.. فلن أستطيع شراءها! تناولت معصمي لتلبسني الياخت ماستر!
   "شايف كيف تجنن على إيدك؟.. يللا بسرعة.. غيّر باقي ملابسك، يادوب نلحق المطعم!"
يالجرأتها! تريدني أن أغيّر ملابسي أمامها؟ لا يمكن!مستحيل! نظرت إليها باستنكار فقالت:
   "إيه؟ مكسوف مني؟ أوكي مو مشكلة.."
قالتها واستدارت للناحية الأخرى كي لا تراني.. ولكن هيهات!
   "طيب؟ وبعدين؟ كيف تبغيني أغيّر وإنتِ هنا؟"
   "ليه؟ تستحي مني؟"
   "لا تحلمي! مستحيل أغيّر ملابسي وانتِ هنا! حتى لو كنتِ أمي!"
ضحكت وخرجت وهي تقول:
   "طيب طيب.. بس بسرعة لا تتلكع! حاستناك برّا عند الباب.."
لم ألـمس ملابسي حتى تأكدت من أنها خرجت والباب أغلق تماماً؛ اختفت ملامح الصرامة المفتعلة من وجهي في لحظتها، لأفسح المجال لملامح الانبهار البلهاء مع بعض اللعاب وأنا أستمتع بملابسي وبالياخت ماستر..
   "حسام؟ خلّصت؟"
   "إياكِ تدخلي!"
يجب أن أغيّر ملابسي بسرعة قبل أن تتهور هذه المجنونة وتدخل عليّ!
   "حسااااام؟ خلّصت وللا لسّا؟.. أدخل؟"
انزلقتُ داخل الجينز بسرعة وسلاسة لأول مرة في حياتي، لم أضطر لأن أتقافز وأؤدي رقصتي المعتادة: "احشروني-داخل-هذا-الجينز-اللعين"، لـيس لدي وقت الآن للاحتفال باختفاء أكياس الكوليسترول؛ أغلقتُ أزرار الجينز في اللحظة التي اقتحمت فيها تلك الوقحة الغرفة وأطلّت برأسها:
"هاه خلّصتِ لبسِك يا عروسة وللا تحتاجي مساعـ.. أووه وااااو إيه الوسامة دي كلها؟.. ممم بس تعجبني أكثر لما تشمّر أكمامك.."
قالتها وشمّرَت أكمامي وتعلقت بذراعي كالطفلة، انطفأت أنوار الخزانة وانغلق بابها وكذلك باب الغرفة تلقائياً فور خروجنا، ومشينا في ردهة كريستالية شفافة التفّت حولها النباتات من الخارج، وتسلل بعضها إلى الداخل لتفرش أزهارها في أرضية الردهة وعطرها في أجوائها..
   "تختار أي لون يا حسام؟"
باغتتني بالسؤال، وجثت على ركبتيها المثنيتين قبل أن أجيبها، التقطت إحدى الأزهار ودسّتها بين خصلات شعرها وبرعمت زهرة أخرى مكان الزهرة المقطوفة وبدأت تتفتح ببطء..
   "هاه.. إش رأيك؟ يا ترى البنفسجي لايق على لون شعري وملابسي؟ كذا شكلي أحلى صح؟"
في الواقع الزهرة هي التي أزدادت جمالاً ورونقاً وكأنها سعيدة بأنها كانت المحظوظة التي اختارتها لتسكنها بين خصلاتها. تخلّيت عن بعض ثقالة دمي وأنا أهز رأسي موافقاً مع ابتسامة رصينة. كنت أرى السحاب يسير بمحاذاتنا أحياناً، ويغمرنا أحياناً أخرى، وصلنا إلى المصعد الذي كان مصنوعاً من الزجاج هو الآخر، انفتح بابه تلقائياً مع اقترابنا وانغلق بعد دخولـنا إليه، لأول مرة في حياتي أرى مصعداً بمقاعد، تحفتان مخمليتان معلقتان على الزجاج، جلسنا عليها فبدأنا رحلة الـنزول، كان في الواقع أشبه بالسقوط ولكنني لم أشعر بالدوار ولا بالتفاف أمعائي حول نفسها، فقط شعرت برعب طفيف وأنا أرى الأرض تقترب بسرعة لم تلبث أن تباطأت عندما وصلنا لبهو ذلك المبنى؛ كان البهو دائرياً تتوسطه نافورة عالية جداً تجلس حولها ثلاث فتيات تعزف كل منهن على آلة موسيقية عجيبة تشاركهن فيها أصوات انسياب المياه في النافورة، هذه هي الموسيقى التي تسللت إلى غرفتي.
التفت إلي الفتيات بابتسامات خجولة وتحمّسن في الـعزف عندما مررنا بمحاذاتهن، تداعب كل منهن آلتها بشغف وترمقني بطرفها وكأنها تعزف من أجلي أنا فقط. خرجنا من بوابة المبنى الرئيسية فرأيت أمامي فرساً بيضاء، خصلات شعرها ذهبية مظفرة ومزينة بخرزات ملونة، تكاد تلمس الأرض من طولها.
   "هاه.. تحب تسوق أو أسوق أنا؟"
ياللإحراج الشديد! كيف سأسيطر على شئ كهذا؟ سيطرتي وخبرتي لا تتعدى شريكة حياتي: الكامري الرصاصية! يجب أن أتهرب بديبلوماسية:
   " كل هذي التكنولوجبيا وفي النهاية نركب حصان؟ توقعتك حتركبيني صاروخ!"
فشلت مناورتي! فقد أحرجتني بضحكتها وهي تقول:
   "أولاً لازم تفرّق بين الحصان والفرس، ثانياً من جدك إنت تبغى تركب صاروخ؟ أول مرة في حياتك تخرج مع بنت وتبغاها تركب صاروخ بدل الخيل؟ على العموم إحنا ما نحب نخرب الهدوء في المدينة بالآلات، وبعدين لا تتسرع في الحكم على الفرس صدقني رح تنسّيك الصواريخ"
   "الحقيقة آخر مرة ركبت خيل كانت.."
   "عارفة عارفة.. لـمّا كان أبوك يمشيك على الكورنيش وانت صغير وتركب مع أختك على الخيل القزم"
تباً لها! كيف عرفَت؟! فتحَتْ الحزام الذي يثبت سرج الفرس وألقت بالسرج بعيداً، ثم أمسكت بخصلاتها ووثبَت عليها بمهارة، لم يُعق ثوبها الحريري مرونة حركتها بسبب الفتحة الطويلة في جانبه، مدّت إلي يدها وهي تقول:
   "ما أحب السروج!.. يللا ناولني يدك اتأخرنا!"
ظهر الخيل كان يصل لمستوى عيني، كيف استطاعت فتاة برقتها أن تقفز عليه بهذه السهولة؟ أمسكت بيدها وقفزت على ظهر الخيل خلفها، كنت في قمة الإحراج والارتباك، ولكنها عندما شدّت خصلات الفرس انطلقت بسرعة أنستني الإحراج وأرعبتني فتشبثت بها بقوة وأغرق شعرها النحاسي الثائر في الهواء وجهي، انطلقنا بسرعة بمحاذاة المجرى الـمائي عن يميننا والحدائق عن شمالنا والسماء من فوقنا ترتدي ثوبها الأرجواني المطرز بالذهب.
إن كان هذا حلماً فعقلي الباطن يستحق جائزة الأوسكار بجدارة! عندما أستيقظ سأكافئ نفسي بإجازة لا أفتح فيها عيني، أبقيهما مغمضتين لـكي أمنع تبخر هذا الحلم قدر الإمكان.
ولكن، هل يُعقل أن يكون هناك حلم بكل هذه التفاصيل وهذا الوضوح؟ وإن كان حلماً جليّاً هل يُعقل أن يكون ملموساً أكثر من الواقع؟ لو لم يكن هذا حلماً فماذا يكون؟ كيف سأعرف أين أنا؟ وما الذي أتى بي إلى هنا؟!
لا أحد يملك الإجابات سواها.. 

24 comments:

  1. Great as usual, waiting for the next one :)

    ReplyDelete
    Replies
    1. Thanx Mai :) writing the second episode at the moment :)

      Delete
  2. روعه روعه روعه وبداية رحلة خيال مشتاقين لها من قلمك المبدع وروحك الراقية

    ReplyDelete
    Replies
    1. مشكلتك يا عبدالله إنك دايماً تحمسني أكثر من اللازم! :) أبشر بما يشعلل خيالك :)

      Delete
  3. بداية راااااااااااائعة..في انتظار الحلقة الثانية بفارغ الصبر

    ReplyDelete
  4. روعه روعه انتا مبدع في سرد القصص الخياليه .. جد اتحمست معها.. ننتظرك^^

    ReplyDelete
    Replies
    1. تسلمي يا روان من ذوقك والله :)

      Delete
  5. HOOKED!

    now it's Hosam Vs. 7ojan :D

    ReplyDelete
  6. بدايه خرافيه محمسه و إبداع اكثر من العاده في جعل القارئ يعيش داخل الخيال الروائي و يصدقه، بس احلى شي تباً لوووووول
    سلمت الانامل

    ReplyDelete
  7. مببببببدعع ماشاءالله , واليوم وانا بقرآ وآختي تكلمني ومن قوة الاندمآج مني سآمعتههآ في آلنهآية صرخت عليآ قآلت وجعع محآ آتكلم معآكي , ههههههههه كلو بسبب آبدآعكك شآيف كيف ؟

    ReplyDelete
  8. لوووول حسام وملاك مدينين بالاعتذار لأختك :)

    ReplyDelete
  9. نحنا في الجنه و للا ايش !!!

    ReplyDelete
  10. الله عليك أستاذ ابراهيم , رمز للإبداع كالعادة مستنية الحلقات الجاية بفارغ الصبر .
    بالتوفيق

    ReplyDelete
  11. Can not wait for the coming episodes! Well imagined, sir :)

    ReplyDelete
  12. Can't wait, hurry up please. I'm drowning in your imagination :')

    ReplyDelete
  13. اهنيك ع ابداعك جدا جميل وبانتظار الحلقات الجايه

    ReplyDelete
  14. خلاص اتعودنا على جمال كتاباتك و بانتظار الحلقة الجاية بفارغ الصبر و على احر من الجمر و استمر و لا تحرمنا من هالجمال يا مبدع ����

    ReplyDelete
  15. انتظر الحلقه الجاية بحماس شديد مرا

    ReplyDelete
  16. الا عندي سؤال فين القى سلسال ملاك ؟

    ReplyDelete